رحلت «شيرين أبو عاقلة» بجسدها وبقي صوتها مُدَويًّا بانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي، «شيرين» كانت مقيمة بيننا منذ ربع قرن تنقلنا من وادٍ إلى جبلٍ، ومن الأقصى لمخيّم جنين الأبيّ، حتى ارتقت من سرب الحمائم الزاجلة برصاصة غدر. أفنت حياتها في نقل الحقائق ليلًا ونهارًا من فلسطين، واقفة تحت الشمس الحارقة، والأمطار والرياح الباردة، كانت مؤمنة بقضيتها، وبأنّ الحق يستحقُ الصمود، وهذه قناعة كل مراسل صحفي، ممن اختاروا مهنة المتاعب والمخاطر، حاملين أرواحهم على كفوف التضحية، متجوّلين في الطرق الوعرة، ونحن جالسون أمام الشاشات.
يَعزّ عليّ وجود من ينتقص من تضحيات هؤلاء المراسلين الصحفيين، بقول لا تعطوهم أكبر من حجمهم، إنّهم مجرد موظفين، بل ويتندّرون بما يتقاضون من رواتب، وأتساءل، كيف يُفكّر هؤلاء!
كنت قد وجدت الإجابة عن تساؤلي منذ استشهاد المراسل الصحفي «علي حسن الجابر» بثلاث رصاصات في كمين تعرضَ له فريق قناة الجزيرة، في ليبيا عام 2011، وكان «الجابر» آنذاك رئيس قسم التصوير في قناة الجزيرة. حينها سألت نفسي مثل كثيرين غيري، ما الذي دفع مواطنًا قطريًّا للعمل هناك، بينما كان بإمكانه أن يختارَ البقاء مراسلًا صحفيًّا في وطنه، أو أي بلدٍ آمنٍ، بعيدًا عن الخطر المحدق في أرض المعركة التي يغطيها!
وبعد أنْ تبيّن أن الشهيدة «شيرين أبو عاقلة» تحملُ الجنسية الأمريكية، يفرضُ التساؤل نفسه من جديد، لماذا لم تستغل هيبة ومزايا الجواز الأمريكي، وتذهب للعمل في أي بلدٍ ولأيّ قناة تدفع أكثر؟ لأجد نفس الإجابة، إنه الإيمان المطلق بقضية فلسطين، وبقيمة هذه المهنة وأهميتها في نقل الحقائق، إنه الإيمان بأن الموت آتٍ لا محالة، فإما حياة تسرّ الصديق، وإما ممات يغيظ العدا، إنها قضيّة حقٍ تستحقُ شرف المحاولة والصمود.
لقد استشهد أكثر من اثني عشر صحفيًّا من قناة الجزيرة فقط، غير المعتقلين. ومن الصعب إحصاء من بذلوا حياتهم مقابل نقل الحقيقة حول العالم في مقالٍ مُختصرٍ لا يمكن أن يوفيهم حقهم، لكنّ ذِكرهم واجبٌ، والدعاء لهم أوجب.
وفيما يتعلقُ بالقضية الفلسطينية، كم من صحفي أجنبي وعربي، تم استهدافهم، بهدف ردع أمثالهم، لدفن الحقائق وتزييف الوقائع، كلهم تعرضوا لرشقات الرصاص، والغازات السامّة والمسيلة للدموع، حتى سالت دماؤهم على الأراضي المحتلة.
كم من أجنبي قضى نحبه برصاص الاحتلال الإسرائيلي، كالمُتضامنة الأمريكية «راشيل كوري» عام 2003 بمدينة رفح، والناشط البريطاني «توم هرندل» الذي قُتل برصاصة إسرائيلية عام 2004 بمدينة رفح أيضًا وهو يحاول حماية طفلة، والصحفي والمُتضامن البريطاني «جميس هنري ميللر» الذي قتله الجيش الإسرائيلي في غزة عام 2003 أثناء تصويره فيلمًا عن الحياة داخل القطاع، وغيرهم ممن يرون الحق حقًا والباطل باطلًا، باذلين حياتهم في تصوير الوقائع ونشرها للعالم المُتجاهل للعدالة.
وبعد كل عملية اغتيال، نتأكدُ أن إسرائيل مُستثناة من عقوبات العدالة الدوليّة، لأن الكيان الصهيوني، ما هو إلا وليدها المُصطنع المُدلل، وكل مُصطنعٍ بلا قلب، ومن أمن العقاب أساء الأدب.
لقد كان نسف برج الجوهرة الإعلامي في غزة، رسالة نسفت كل المعاهدات والقوانين الدولية والإعلامية، ليؤكدَ لنا أن هيئة الأمم بلا مصداقية، والمنظمات الإنسانية بلا تأثير، والسُلطة بلا سُلطة، والتنسيق الأمني لم ولن يحقق الأمان، لا قوانين تحمي المواطنين والصحفيين والمستشفيات والمدارس، إن لم تكن العدالة والرحمة نابعة من القلوب، فلا وجود لهما إلا عند الرحمن الرحيم.
تحية إجلال وتقدير لكل مُراسل صحفي شريف ونزيه.